)  - علم اللّه عزّ وجلّ

      ١- محمّد بن يعقوب الكلينيّ رحمه الله؛:... أيّوب بن نـوح، أنّه كتب إلى أبي‏ الحسن عليه السـلام: يسأله

      عن اللّه عـزّ وجـلّ، أكـان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوّنها؟ أو لم يعلم ذلك حتّى خلقهـا وأراد

      خلقها وتكوينها فعلم ماخلق عند ما خلق، وما كوّن عند ما كوّن؟

      فوقّع بخطّه عليه السلام: لم يزل اللّه عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء.

      {الكافي:  ١/١٠٧ ح ٤

      يأتي الحديث بتمامه مع ترجمة الراوي في ج  ٣ رقم ٨٤٥}.

 

 

 

      ٢- محمّد بن يعقوب الكلينيّ رحمه الله؛: ... جعفر بن محمّد بن حمزة قال: كتبت إلى الرجل عليه السلام:

      أسألـه أنّ مواليك إختلفـوا في العلم؛ فقال بعضهم: لم يزل اللّه عالمـا قبل فعل الأشياء؛ وقـال بعضهم:

      لا نقول لم يزل اللّه عالما لأنّ معنـى يعلم يفعل؛ فإن أثبتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل معـه شيئا، فإن رأيت

      جعلني ‏اللّه فداك! أن تعلّمني مـن ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه.

      فكتب عليه السلام بخطّه: لم يزل اللّه عالما تبارك وتعالى ذكره.

      {الكافي:  ١/١٠٧ ح ٥

      يأتي الحديث بتمامه مع ترجمة الراوي في ج  ٣ رقم ٨٦٠}.

 

 

 

      ٣- البحرانيّ رحمه الله؛:... عليّ بن عبيد اللّه الحسينيّ قال: ركبنا مع سيّدنا أبي ‏الحسن عليه السـلام إلى

      دار المتوكّل... فقال له المتوكّل: اجلس يا أبا الحسن! إنّي أُريد أن أسألك.

      فقال عليه السلام له: سل!

      فقال له: ما في الآخرة شي‏ء غير الجنّة أو النار يحلّون فيه الناس؟

      فقال أبو الحسن عليه السلام: ما يعلمه إلّا اللّه.

      فقال له: فعن علم اللّه أسألك! فقال عليه السلام له: ومن علم اللّه أُخبرك....

      {مدينة المعاجز:  ٧/٥٣٥ ح  ٢٥١٨

      تقدّم الحديث بتمامه في ج  ١ رقم  ٥٢٧}.

 

 

 

      (ه’) - مشيّة اللّه عزّ وجلّ

      ١- العيّاشيّ رحمـه الله؛:... أيّوب بن نوح قال: قال لي أبو الحسن العسكريّ عليـه السـلام... إنّ للّه

      المشيّة، يقدّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء....

      {تفسير العيّاشيّ:  ٢/٢١٥ ح ٥٦

      يأتي الحديث بتمامه في رقم ٥٤٠}. 

 

 

 

      ٢- أبو عمرو الكشّيّ رحمه الله؛:... محمّد بن عيسى اليقطينيّ قال: كتب[أبوالحسن الثالث] عليه السـلام

      إلى عليّ بن بلال... فإنّ اللّه يعطي من يشاء ذوالإعطاء والجزاء برحمته... .

      {رجال الكشّيّ:  ٥١٢ رقم ٩٩١

      يأتي الحديث بتمامه في ج  ٣ رقم ٩٠١}.

 

 

 

 

      ) - البداء

      ١- محمّد بن يعقوب الكلينيّ رحمـه الله؛:... معلّـى بن محمّد قال: سئل العالم عليه السـلام... قال عليه

      السـلام...: فللّه تبارك وتعالـى البداء فيمـا علم متى شـاء، وفيما أراد لتقدير الأشياء، فإذا وقع القضاء

      بالإمضاء فـلا بداء،... فللّه تبارك وتعالـى فيـه البداء ممّا لا عين له، فإذا وقـع العين المفهوم المدرك

      فلابداء،....

      {الكافي:  ١/١٤٨ ح ١٦

      تقدّم الحديث بتمامه في رقم ٥٣٤}.

 

 

 

      ٢- محمّد بن يعقوب الكلينيّ رحمه الله؛:... عن أبي هاشم الجعفريّ قال: كنت عند أبي الحسن عليه السلام

      بعد ما مضى ابنه أبو جعفر،....

      فقال: نعم، يا أبا هاشم! بدا للّه في أبي محمّد عليه السلام بعد أبي جعفر ما لم يكن يعرف له، كما بدا له في

      موسى بعد مضيّ إسماعيل ما كشف به عن حاله،....

      {الكافي:  ١/٣٢٧ ح ١٠

      يأتي الحديث بتمامه في رقم  ٥٨٣}.

 

 

 

 

      ) - الجبر والتفويض

      ١- ابن شعبة الحرّانيّ رحمه الله؛: من عليّ بن محمّد عليهما السلام: سلام عليكم وعلى مـن اتّبع الهدى

      ورحمة اللّه وبركاته،فإنّه ورد عليّ كتابكم، وفهمت ماذكرتم من اختلافكم في دينكم، وخوضكم في القدر،

      ومقالة من يقول منكم بالجبر ، ومن يقـول بالتفويض، وتفرّقكم في ذلك وتقاطعكم، وما ظهر من العداوة

      بينكم، ثمّ سألتموني عنه وبيانه لكم وفهمت ذلك كلّه....

      فإنّا نبدأ من ذلك بقول الصادق‑ عليه السلام: لا جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين المنزلتين، وهي صحّة

      الخلقة، وتخلية السرب، والمهلة في الوقت، والزاد مثل الراحلة، والسبب المهيّج للفاعل على فعله« فهذه

      خمسـة أشياء جمع به الصادق عليه السـلام جوامع الفضل، فإذا نقص العبد منها خلّة، كـان العمل عنه

      مطروحا بحسبه، فأخبر الصادق عليـه السلام بأصل ما يجب على الناس من طلب معرفته، ونطق الكتاب

      بتصديقه، فشهد بذلك محكمات آيات رسولـه، لأنّ الرسـول صلى الله عليـه و آله وسلم وآله: لا يعدون

      شيئا من قوله وأقاويلهم حدود القرآن، فإذا وردت حقائق الأخبار والتمست شواهدها من التنزيل، فوجد لها

      موافقا وعليها دليلاً، كان الاقتداء بها فرضا لا يتعدّاه إلّا أهل العناد كما ذكرنا في أوّل الكتاب.

      ولمّا التمسنا تحقيق ما قالـه الصادق عليه السـلام من المنزلة بين المنزلتين، وإنكـاره الجبر والتفويض،

      وجدنا الكتاب قد شهد له، وصدّق مقالته في هـذا، وخبر عنه أيضا موافق لهذا: أنّ الصادق عليه السـلام

      سئل هل أجبر اللّه العباد على المعاصي؟

      فقال الصادق عليه السلام: هو أعدل من ذلك، فقيل له: فهل فوّض إليهم؟

      فقال عليه السلام: هو أعزّ وأقهر لهم من ذلك.

      وروي عنه عليه السـلام أنّه قال: الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليه فقد

      وهّن اللّه في سلطانه فهو هالك.

      ورجل يزعم أنّ اللّه جلّ وعزّ أجبر العباد على المعاصـي وكلّفهم مالايطيقون فقد ظلّم اللّه في حكمه فهو

      هالك.

      ورجل يزعم أنّ اللّه كلّف العباد ما يطيقون، ولم يكلّفهم مـا لا يطيقون، فإذا أحسن حمـد اللّه، وإذا أساء

      استغفر اللّه، فهذا مسلم بالغ.

      فأخبر عليه السلام: أنّ من تقلّد الجبر والتفويض ودان بهما فهو على خلاف‏ الحقّ.

      فقد شرحت الجبر الذي من دان به يلزمه الخطأ، وأنّ الذي يتقلّد التفويض يلزمه الباطل، فصارت المنزلة

      بين المنزلتين بينهما.

      ثمّ قال عليه السلام: وأضرب لكلّ باب من هذه الأبواب مثلاً يقرّب المعنى للطالب، ويسهّل له البحث عن

      شرحه، تشهد به محكمات آيات الكتاب، وتحقّق تصديقه عند ذوي الألباب، وباللّه التوفيق والعصمة.

      فأمّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ فهو قـول من زعم أنّ اللّه جلّ وعـزّ أجبر العباد على المعاصي

      وعاقبهم عليها؛ ومن قال بهذا القول فقد ظلّم اللّه في حكمه، وكذّبه وردّ عليه قوله: (وَلَايَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).

      وقوله:( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّمٍ لِّلْعَبِيدِ).

      وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَايَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًَآ وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

      مع آيٍ كثيرة في ذكر هذا.

      فمن زعم أنّه مجبر على المعاصي فقد أحال بذنبه على اللّه، وقد ظلّمه في عقوبته.

      ومن ظلّم اللّه فقد كذّب كتابه. ومن كذّب كتابه فقد لزمه الكفر بإجتماع الأُمّة.

      ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك نفسه ولا يملك عرضا من عرض الدنيا، ويعلم مولاه ذلك

      منه فأمره على علم منه بالمصير إلى السـوق لحاجة يأتيه بها ، ولم يملّكه ثمن مـا يأتيه به من حاجته،

      وعلم المالك أنّ على الحاجة رقيبا لا يطمع أحـد في أخذها منه إلّا بما يرضى به من الثمن، وقد وصف

      مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة، وإظهار الحكمة ونفي الجـور، وأوعد عبده إن لم يأته بحاجته أن

      يعاقبه على علم منـه بالرقيب الذي على حاجته أنّه سيمنعه، وعلـم أنّ المملوك لا يملك ثمنها ولم يملّكه

      ذلك، فلمّا صار العبد إلى السوق وجاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولى لها وجد عليها مانعا يمنع منهـا إلّا

      بشـراء، وليس يملك العبد ثمنها، فانصـرف إلى مولاه خائبا بغير قضـاء حاجته، فاغتاظ مولاه من ذلك

      وعاقبه عليـه، أليس يجب في عدله و حكمه أن لا يعاقبه وهو يعلم أنّ عبده لا يملك عرضا من عروض

      الدنيا ولم يملّكه ثمن حاجته؟

      فإن عاقبه عاقبه ظالما متعدّيا عليه، مبطلاً لما وصف من عدله وحكمته ونصفته، وإن لم يعاقبه كذّب نفسه

      في وعيده إيّاه حين أوعده بالكذب والظلم اللذين ينفيان العدل والحكمة؛ تعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا.

      فمَن دان بالجبر أو بما يدعو إلى الجبر فقد ظلّم اللّه ونسبه إلى الجور والعدوان، إذ أوجب على من أجبر

      [ه] العقوبة.

      ومن زعم أنّ اللّه أجبر العباد فقد أوجب على قياس قوله إنّ اللّه يدفع عنهم العقوبة.

      ومن زعم أنّ اللّه يدفع عن أهـل المعاصي العذاب فقد كذّب اللّه في وعيده حيث يقـول:( بَلَى مَن كَسَبَ

      سَيِّئَةً وَأَحَطَتْ بِهِ‏ خَطِيَتُهُ‏ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ).

      وقوله:(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَمَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا).

      وقولـه:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَِايَتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ

      إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) مع آي كثيرة في هذا الفن‏ ممّن كذّب وعيد اللّه، ويلزمه في تكذيبه آية من كتاب

      اللّه الكفر.

      وهـو ممّن قال اللّه:(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْىٌ فِـى

      الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، بل نقـول: إنّ اللّه عزّ وجلّ

      جازى العباد على أعمالهم، ويعاقبهم على أفعالهم بالإستطاعة التي ملّكهم إيّاها، فأمرهم ونهاهم بذلك ونطق

      كتابه: (مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ‏ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَايُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ).

      وقال جلّ ذكـره:(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ‏

      أَمَدَ‏ا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏).

      وقال: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسِ‏ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ).

      فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ومن دان به، ومثلها في القـرآن كثير، اختصرنا ذلك لئلّا يطـول الكتاب

      وباللّه التوفيق.

      وأمّا التفويض الذي أبطله الصـادق عليه السـلام وأخطأ من دان به وتقلّده، فهو قول القائل: إنّ اللّه جلّ

      ذكره فوّض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم.

      وفي هـذا كلام دقيق لمن يذهب إلى تحريره ودقّته ، وإلى هذا ذهبت الأئمّة المهتدية من عترة الرسـول

      صلى الله عليه وآله وسلم فإنّهم قالوا: لو فوّض إليهم على جهة الإهمال لكان لازما له رضـا ما اختاروه

      واستوجبوا منـه الثواب، ولم يكن عليهم فيما جنوه العقاب إذا كان الإهمال واقعـا، وتنصرف هذه المقالة

      على ‏معنيين:

      إمّا أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول إختيارهم بآرائهم ضرورة، كـره ذلك أم أحبّ، فقد لزمه

      الوهن، أو يكون جلّ وعزّ عجز عن تعبّدهم بالأمر والنهي علـى إرادته، كرهوا أو أحبّوا، ففوّض أمره

      ونهيه إليهم وأجراهما على محبّتهم، إذ عجز عن تعبّدهم بإرادته، فجعل الإختيار إليهم في الكفر والإيمان.

      ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه، ويعرف له فضل ولايته، ويقف عند أمـره ونهيه، وادّعى

      مالك العبد أنّه قاهر عزيز حكيم، فأمر عبده ونهاه ، ووعده على اتّباع أمره عظيم الثواب، وأوعـده على

      معصيته أليم العقاب، فخالف العبد إرادة مالكه ولم يقف عند أمره ونهيه ، فأيّ أمر أمره، أو أيّ نهي نهاه

      عنه لم يأته على إرادة المولى؛ بل كان العبد يتّبع إرادة نفسه، واتّباع هواه، ولا يطيق المولى أن يردّه إلى

      اتّباع أمره ونهيه والوقوف على إرادته، ففوّض إختيار أمـره ونهيه إليه ، ورضي منه بكلّ ما فعله على

      إرادة العبد لا على إرادة المالك ، وبعثه في بعض حوائجه وسمّى له الحاجة فخالف علـى مولاه وقصد

      لإرادة نفسه واتّبع هواه، فلمّا رجع إلى مولاه نظر إلى ماأتاه به ، فإذا هو خلاف ما أمره به، فقال له: لِمَ

      أتيتني بخلاف ما أمرتك؟

      فقال العبد: اتّكلت على تفويضك الأمر إليّ فاتّبعت هـواي وإرادتي، لأنّ المفوّض إليه غير محظور عليه

      فاستحال التفويض.

      أو ليس يجب على هذا السبب إمّا أن يكـون المالك للعبد قادرا يأمر عبده باتّباع أمره ونهيه على إرادته،

      لا على إرادة العبد، ويملّكـه من الطاقـة بقدر ما يأمره به وينهاه عنه، فإذا أمره بأمر ونهاه عن نهـي،

      عرّفه الثواب والعقاب عليهما؛ وحذّره ورغّبه بصفة ثوابه وعقابه ، ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملّكه من

      الطاقة لأمـره ونهيه وترغيبه وترهيبه، فيكون عدله وإنصافه شامـلاً له، وحجّته واضحة عليه للإعذار

      والإنذار. فإذا اتّبع العبد أمـر مولاه جازاه، وإذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه ، أو يكون عاجزا غير قادر،

      ففوّض أمره إليه، أحسن أم أساء، أطاع أم عصى، عاجز عن عقوبته، وردّه إلى اتّباع أمره.

      وفي إثبات العجز نفي القدرة والتألّه، وإبطـال الأمـر والنهـي، والثواب والعقاب، ومخالفـة الكتاب،

      إذ يقول:

      (وَلَايَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ).

      وقوله عزّ وجلّ: (اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏ وَلَاتَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

      وقوله:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ × مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ).

    وقوله: (اعْبُدُواْ اللَّهَ وَلَاتُشْرِكُواْ بِهِ‏ شَيْئًَا).

      وقوله:(أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏ وَلَاتَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ).

      {في المصدر: أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول...، ولكن صححّناها بما في المصحف الشريف}. فمن زعم

      أنّ اللّه تعالى فوّض أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز، وأوجب عليـه قبول كلّ ما عملوا من

      خير وشرّ، وأبطل أمر اللّه ونهيه ووعده ووعيده، لعلّة مـا زعم أنّ اللّه فوّضها إليه، لأنّ المفوّض إليه

      يعمل بمشيئته، فإن شاء الكفر أو الإيمان، كـان غير مردود عليه ولا محظور، فمن دان بالتفويض على

      هذا المعنى فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده وأمره ونهيه، وهو من أهل هذه الآية: (أَفَتُؤْمِنُونَ

      بِبَعْضِ الْكِتَبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَـا جَـزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْىٌ فِـى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ

      يُرَدُّونَ إِلَـى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). تعالى عمّا يدين به أهل التفويض علوّا كبيرا.

      لكن نقول: إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق الخلق بقدرته، وملّكهم استطاعة تعبّدهم بها، فأمرهم ونهاهم بما أراد،

      فقبل منهم اتّباع أمره ورضي بذلك لهم،ونهاهم عن معصيته، وذمّ من عصاه وعاقبه عليها، وللّه الخيرة

      في الأمر والنهي، يختار ما يريد ويأمر به، وينهى عمّا يكـره ويعاقب عليـه بالإستطاعـة التي ملّكها

      عباده لإتّباع أمره واجتناب معاصيه، لأنّه ظاهـر العدل والنصفة والحكمة البالغة، بالغ الحجّة بالإعذار

      والإنذار، وإليه الصفوة يصطفـي من عباده من يشـاء لتبليغ رسالته، واحتجاجه على عباده؛ اصطفى

      محمّدا صلـى الله عليه و آله وسلم وبعثـه برسالاته إلى خلقـه، فقال من قال من كفّار قومـه حسدا

      واستكبارا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) يعنـي بذلك أُميّة بن أبي الصلت وأبا

      مسعود الثقفي، فأبطل اللّه اختيارهم ولم يجز لهم آراءهم حيث يقول:

      (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَتٍ

      لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ). ولذلك اختار من الأُمور ما أحبّ ونهـى

      عمّا كره، فمن أطاعه أثابه.

      ومن عصاه عاقبـه ، ولـو فوّض اختيار أمره إلى عباده لأجـاز لقريش اختيار أُميّة ابن أبي الصلت،

      وأبي مسعود الثقفي، إذ كانا عندهم أفضل من محمّد صلى الله عليه و آله وسلم.

      فلمّا أدّب اللّه المؤمنين بقولـه: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَـى اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ

      الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) فلم يجز لهـم الاختيار بأهوائهم، ولم يقبل منهم إلّا اتّباع أمـره، واجتناب نهيه على

      يدي من اصطفاه، فمن أطاعه رشـد، ومن عصاه ضلّ وغوى ، ولزمته الحجّة بما ملّكه من الاستطاعة

      لاتّباع أمره واجتناب نهيـه، فمن أجل ذلك حرّمه ثوابه وأنزل به عقابه.

      وهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض، وبذلك أخبر  أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه عباية بن

      ربعي الأسدي حين سأله عن الإستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل.

      فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: سألت عن الاستطاعة تملكها من دون اللّه أو مع اللّه؟ فسكت عباية.

      فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: قل يا عباية!

      قال: وما أقول؟

      قال عليه السلام: إن قلت: إنّك تملّكها مع اللّه قتلتك، وإن قلت: تملّكها دون اللّه قتلتك.

      قال عباية: فما أقول يا أمير المؤمنين؟

      قال عليه السـلام: تقول إنّك تملّكها باللّه الذي يملّكها من دونك، فإن يملّكها إيّاك كـان ذلك من عطائه،

      وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه، هـو المالك لما ملّكك، والقادر على ما عليه أقدرك، أما سمعت الناس

      يسألون الحول والقوّة حين يقولون: لاحول ولا قوّة إلّا باللّه.

      قال عباية: وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟

      قال عليه السلام: لا حول عن معاصي اللّه إلّا بعصمة اللّه، ولا قوّة لنا على طاعة اللّه إلّا بعون اللّه.

      قال: فوثب عباية فقبّل يديه ورجليه.

      وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة اللّه قال: ياأمير المؤمنين بماذا

      عرفت ربّك؟

      قال عليه السلام: بالتمييز الذي خوّلني والعقل الذي دلّني.

      قال: أفمجبول أنت عليه؟

      قال: لو كنت مجبولاً مـا كنت محمودا على إحسان، ولا مذموما على إساءة، وكـان المحسن أولى

      باللائمـة من المسيي‏ء، فعلمت أنّ  اللّه قائم باق ، وما دونه حـدث حائل زائل، وليس القديم الباقي

      كالحدث الزائل.

      قال نجدة: أجدك أصبحت حكيما يا أمير المؤمنين!

      قال: أصبحت مخيّرا. فإن أتيت السيّئة [ب’] مكان الحسنة فأنا المعاقب عليها.

      وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال لرجل سأله بعـد انصرافـه من الشام، فقال: يا أمير

      المؤمنين! أخبرنا عن خروجنا إلى الشام بقضاء وقدر؟

      قال عليه السلام: نعم، يا شيخ! ما علوتم تلعة ولا هبطتم واديا إلّا بقضاء وقدرمن اللّه.

      فقال الشيخ: عند اللّه أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين!

      فقال عليه السلام: مه يا شيخ! فإنّ اللّه قد عظم أجركم فـي مسيركم وأنتم سائرون، وفـي مقامكم

      وأنتم مقيمون، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون، ولم‏ تكونوا في شي‏ء من أُموركم مكرهين، ولا إليه

      مضطرّين، لعلّك ظننت أنّه قضاء حتم، وقدر لازم ، لـو كـان ذلك كذلك لبطل  الثواب والعقاب،

      ولسقط الوعد والوعيد ، ولمـا أُلزمت الأشياء أهلها على الحقائق؛ ذلك مقالة عبدة الأوثان، وأولياء

      الشيطان، إنّ اللّه  جلّ وعزّ أمر تخييرا ونهى تحذيرا، ولم يطع مكرها ولم يعص مغلوبا، ولم يخلق

      السموات والأرض وما بينهما باطلاً، ذلك ظنّ الذين  كفروا فويل للذين كفروا من النار.

      فقام الشيخ فقبّل رأس أمير المؤمنين عليه السلام وأنشأ يقول:

      أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

      يوم النجاة من الرحمن غفرانا

      أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

      جزاك ربّك عنّا فيه رضوانا

      فليس معذرة في فعل فاحشة

      قد كنت راكبها ظلما وعصيانا

      فقد دلّ أمير المؤمنين عليه السلام على موافقة الكتاب ونفي الجبر والتفويض اللذين يلزمان من دان

      بهما وتقلّدهما الباطل والكفر، وتكذيب الكتاب، ونعوذ باللّه من الضلالـة والكفـر، ولسنا ندين بجبر

      ولا تفويض، لكنّا نقـول بمنزلة بين المنزلتين و هو الامتحان والاختبار بالاستطاعة التي ملّكنا اللّه،

      وتعبّدنا بها على ما شهد بـه الكتاب، ودان به الأئمّة الأبرار من آل الرسول صلوات اللّه عليهم.

      ومثل الاختبار بالإستطاعة مثل رجـل ملك عبدا وملك مالاً كثيرا أحبّ أن يختبر عبده على علم منه

      بما يؤول إليه ، فملّكه من ماله بعض ما أحبّ ووقفه على أُمور عرّفها العبد، فأمره أن يصرف ذلك

      المال فيها، ونهاه عن أسباب لم يحبّها، وتقدّم إليه أن يجتنبها ولا ينفق من ماله فيها، والمال يتصرّف

      في أيّ الوجهين، فصرف المال أحدهما في اتّباع أمر المولى ورضاه، والآخر صرفه في اتّباع نهيه

      وسخطه؛ وأسكنه دار اختبار أعلمـه أنّه غير دائم له السكنـى في الدار، وأنّ له دارا غيرهـا وهو

      مخرجه إليها، فيها ثواب وعقاب دائمان ، فـإن أنفذ العبد المـال الذي ملّكـه مولاه في الوجه الذي

      أمره به جعل له ذلك الثواب الدائم في تلك الدار التي أعلمـه أنّه مخرجه إليها ، وإن أنفق المال في

      الوجه الذي نهاه عن إنفاقه فيه جعل له ذلك العقاب الدائم في دار الخلود.

      وقـد حدّ المولى في ذلك حدّا معروفا وهـو المسكن الذي أسكنه في الدار الأولـى، فإذا بلغ الحدّ

      استبدل المولى بالمال وبالعبد على أنّه لم يزل مالكا للمال والعبد في الأوقات كلّها، إلّا أنّه وعد أن لا

      يسلبه ذلك المال ما كان في تلك الدار الأولـى إلى أن يستتمّ سكناه فيها فوفـى له ، لأنّ من صفات

      المولى، العدل والوفاء، والنصفة والحكمة.

      أو ليس يجب إن كان ذلك العبد صـرف ذلك المـال في الوجه المأمور به أن يفي له بما وعده من

      الثواب،وتفضّل عليه بأن استعمله في دار فانية وأثابه على طاعته فيها نعيما دائما في دار باقية دائمة؟

      وإن صرف العبد المال الذي ملّكه مولاه أيّام سكناه تلك الدار الأولى في الوجه المنهيّ عنه، وخالف

      أمـر مولاه، كذلك تجب عليه العقوبـة الدائمة التي حذّره إيّاها، غير ظالم لـه لما تقدّم إليه وأعلمه

      وعرّفه وأوجب له الوفاء بوعده ووعيده، بذلك يوصف القادر القاهر.

      وأمّا المولى فهو اللّه جلّ وعزّ، وأمّا العبد فهو ابن آدم المخلوق، والمال قدرة اللّه الواسعة، ومحنته

      إظهـار [ه] الحكمة والقدرة، والدار الفانية هي الدنيا، وبعض المال الذي ملّكه مولاه هو الإستطاعة

      التي ملّك ابن آدم، والأُمور التي أمر اللّه بصرف المال إليها هو الإستطاعة لاتّباع الأنبياء، والإقرار

      بما أوردوه عن اللّه عزّ وجلّ، واجتناب الأسباب التي نهى عنها هي طرق إبليس.

      وأمّا وعده فالنعيم الدائم وهـي الجنّة، وأمّا الدار الفانية فهـي الدنيا، وأمّا الدار الأُخرى فهـي الدار

      الباقية، وهـي الآخرة.

      والقول بين الجبر والتفويض هو الإختبار والإمتحان، والبلوى بالاستطاعة التي ملّك العبد.

      وشرحها في الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق عليه السلام أنّها جمعت جوامع الفضل وأنا مفسّرها

      بشواهد من القرآن والبيان إن‏شاء اللّه «تفسير صحّة الخلقة».

      أمّا قول الصادق عليه السلام فإنّ معناه كمـال الخلق للإنسان وكمـال الحواسّ وثبات العقل والتمييز

      وإطلاق اللسان بالنطق؛ وذلك قول اللّه:(وَلَقَدْ  كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ وَحَمَلْنَهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَهُم مِّنَ

      الطَّيِّبَتِ وَفَضَّلْنَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً).

      فقد أخبر عزّ و جلّ عن تفضيله بني آدم على سائر خلقه من البهائم والسباع، ودوابّ البحر والطير،

      وكلّ ذي حركة تدركه حواسّ بني آدم بتمييز العقل والنطق، وذلك قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَنَ فِى أَحْسَنِ

      تَقْوِيمٍ).

      وقولـه: (يَأَيُّهَا الْإِنسَنُ مَـا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ × الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ × فِى أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ

      رَكَّبَكَ)، وفي آيات كثيرة.

      فأوّل نعمة اللّه على الإنسـان صحّة عقله ، وتفضيله على كثير من خلقه بكمال العقل وتمييز البيان،

      وذلك أنّ كلّ ذي حركة على بسيط الأرض هو قائم بنفسه بحواسّه، مستكمل في ذاته، ففضل بني آدم

      بالنطق الذي ليس فـي غيره من الخلق المدرك بالحواسّ، فمن أجل النطق ملّك اللّه ابن آدم غيره من

      الخلق حتّى صار آمرا ناهيا، وغيره مسخّر لـه كما قال اللّه:(كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا

      هَدَكُمْ).

      وقال: (وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا).

      وقـال: (وَالْأَنْعَمَ خَلَقَهَا لَكُـمْ فِيهَا دِفْ‏ءٌ وَمَنَفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ × وَلَكُمْ فِيهَـا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ

      تَسْرَحُونَ × وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَلِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ).

      فمن أجل ذلك دعا اللّه الإنسان إلى اتّباع أمره وإلى طاعته بتفضيله إيّاه باستواء الخلق، وكمال النطق

      والمعرفة، بعد أن ملّكهم استطاعة ما كان تعبّدهم به بقوله: (فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُوا).

      وقوله: (لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).

      وقوله: (لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَآ ءَاتَهَا) وفي آيات كثيرة.

      فإذا سلب من العبد حاسّة من حواسّه رفـع العمل عنـه بحاسّته كقوله: (لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا

      عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) الآية.

      فقد رفع عن كلّ من كان بهـذه الصفة الجهاد، وجميع الأعمال التي لا يقوم بها، وكذلك أوجب على

      ذي اليسار الحجّ، والزكاة لما ملّكه من استطاعة ذلك، ولم ‏يوجب على الفقير الزكاة والحجّ.

      قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).

      وقوله في الظهار: (وَالَّذِينَ يُظَهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ- إلى قوله -: فَمَن

      لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا).

      كلّ ذلك دليل على أنّ اللّه تبارك وتعالى لم يكلّف عباده إلّا ما ملّكهم استطاعته بقوّة العمل به ونهاهم

      عن مثل ذلك. فهذه صحّة الخلقة.

      وأمّا قولـه:«تخلية السرب»، فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه العمل بما أمره اللّه به،

      وذلك قوله فيمن استضعف وحظر عليـه العمل فلم يجد حيلة ولا يهتدي سبيلاً، كما قال اللّه تعالى:

      (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَنِ لَايَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَايَهْتَدُونَ سَبِيلاً).

      فأخبر أنّ المستضعف لم يخلّ سربه وليس عليه من القول شي‏ء إذا كان مطمئنّ القلب بالإيمان.

      وأمّا المهلة في الوقت فهو العمر الذي يمتّع الإنسان من حدّ ما تجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت،

      وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحلم إلى أن يأتيه أجله. فمن مات على طلب الحـقّ ولم يدرك كماله

      فهو على خير؛ وذلك قوله: (وَمَن يَخْرُجْ مِن‏ بَيْتِهِ‏ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏) الآية.

      وإن كان لم يعمل بكمال شرايعه لعلّة ما لم يمهله في الوقت إلى استتمام أمره.

      وقد حظر على البالغ ما لم يحظر على الطفل إذا لم يبلغ الحلم في قولـه: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَتِ يَغْضُضْنَ

      مِنْ أَبْصَرِهِنَّ) الآية، فلم يجعل عليهنّ حرجا في إبداء الزينة للطفل، وكذلك لا تجري عليه الأحكام.

      وأمّا قوله: (الزاد) فمعناه الجدة والبلغة التي يستعين بها العبد على ما أمره اللّه به، وذلك قوله: (مَا

      عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ) الآية.

      ألا ترى أنّه قبل عذر من لـم يجد مـا ينفق، وألزم الحجّة كلّ من أمكنته البلغـة، والراحلة للحجّ

      والجهاد وأشباه ذلك، وكذلك قبل عذر الفقراء وأوجب لهم حقّا في مال الأغنياء بقوله:(لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ

      أُحْصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) الآية.

      فأمر بإعفائهم ولم يكلّفهم الإعداد لما لا يستطيعون ولا يملكون.

      وأمّا قوله في السبب المهيّج؛ فهو النيّة التي هـي داعية الإنسان إلى جميع الأفعال وحاسّتها القلب،

      فمن فعل فعلاً وكان بدين لم يعقد قلبه على ذلك لم‏ يقبل ‏اللّه منه عمـلاً إلّا بصدق النيّة، ولذلك أخبر

      عن المنافقين بقوله: (يَقُولُونَ بِأَفْوَهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ).

      ثمّ أنزل على نبيّه صلـى الله عليه و آله وسلم توبيخـا للمؤمنين (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَـا

      لَاتَفْعَلُونَ) الآية.

      فإذا قال الرجل قـولاً واعتقد في قوله ، دعته النيّة إلى تصديق القـول بإظهار الفعل، وإذا لم يعتقد

      القـول لم تتبيّن حقيقته ، وقد أجاز اللّه صدق النيّة وإن كـان الفعل غير موافق لها، لعلّة مانع يمنع

      إظهار الفعل في قولـه: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ‏ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَنِ).

      وقوله: (لَّايُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَنِكُمْ).

      فدلّ القرآن وأخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّ القلب مالك لجميع الحواسّ يصحّح أفعالها،

      ولا يبطل ما يصحّح القلب شي‏ءفهذا شرح جميع الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق عليه السلام

      أنّها تجمع المنزلـة بين المنزلتين، وهما الجبر والتفويض.

      فإذا اجتمع في الإنسان كمال هذه الخمسة الأمثال وجب عليه العمل كمّلاً ، لما أمر اللّه عزّ وجلّ به

      ورسوله، وإذا نقص العبد منها خلّة، كان العمل عنها مطروحا بحسب ذلك.

      فأمّا شواهد القرآن على الاختبار والبلوى بالاستطاعة التي تجمع القول بين القولين فكثيرة.

      ومن ذلك قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّبِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ).

      وقال: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَايَعْلَمُونَ).

      وقال: (الم × أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَايُفْتَنُونَ).

      وقال في الفتن التي معناها الاختبار: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَنَ) الآية.

      وقال في قصّة موسى عليه السلام: (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن‏ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ).

      وقول موسى عليه السلام: (إِنْ هِىَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي اختبارك.

      فهذه الآيات يقاس بعضها ببعض ويشهد بعضها لبعض.

      وأمّا آيات البلوى بمعنى الاختبار قوله: (لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَكُمْ).

      وقوله: ( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ).

      وقوله: (وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ).

      وقوله: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

      وقوله: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَهِيمَ رَبُّهُ‏ بِكَلِمَتٍ).

      وقوله: (وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ).

      وكلّ ما في القـرآن من بلوى هـذه الآيات التي شرح أوّلها فهي إختبار، وأمثالها في القرآن كثيرة،

      فهـي إثبات الاختبار والبلوى، إنّ اللّه عزّ وجـلّ لم ‏يخلق الخلق عبثا، ولا أهملهم سدى، ولا أظهر

      حكمته لعبا وبذلك أخبر في قوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَكُمْ عَبَثًا).

      فإن قال قائل: فلم يعلم اللّه ما يكون من العباد حتّى اختبرهم؟

      قلنا: بلى! قـد علم ما يكـون منهم قبل كونـه وذلك قولـه: (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ) وإنّما

      اختبرهم ليعلمهم عدله، ولا يعذّبهم إلّا بحجّة بعد الفعل، وقـد أخبر بقولـه: (وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَهُم بِعَذَابٍ

      مِّن قَبْلِهِ‏ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا).

      وقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).

      وقوله: (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ).

      فالاختبار من اللّه بالإستطاعة التي ملّكها عبده، وهو القول بين الجبر والتفويض؛ وبهذا نطق القرآن

      وجرت الأخبار عن الأئمّة من آل ‏الرسول صلى الله عليه و آله وسلم.

      فإن قالوا: ما الحجّة في قول اللّه: (يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ) وماأشبهها؟

      قيل: مجاز هذه الآيات كلّها على معنيين:

      أمّا أحدهمـا فإخبار عن قدرته أي إنّه قادر على هداية من يشاء وضلال من يشـاء، وإذا أجبرهم

      بقدرته على أحدهما لم يجب لهم ثواب، ولا عليهم عقاب على نحو ما شرحنا في الكتاب.

      والمعنى الآخر أنّ الهدايـة منه تعريفه كقولـه:(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَهُمْ) أي عرّفناهم (فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى

      عَلَى الْهُدَى) فلو أجبرهم على الهدى لم يقدروا أن يضلّوا، وليس كلّما وردت آيـة مشتبهة، كانت

      الآية حجّة على محكم الآيات اللواتي أمرنا بالأخذ بها.

      من ذلك قوله:(مِنْهُ ءَايَتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِـى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ

      مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ‏ وَمَا يَعْلَمُ) الآية.

      وقال: (فَبَشِّرْ عِبَادِ × الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏(أي أحكمه وأشرحه) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَهُمُ

      اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَبِ)....

      {تحف العقول:  ٤٥٨ س ٥

      يأتي الحديث بتمامه في ج  ٣ رقم ١٠١٩}.

 

 

 

 

      (ح) - القضاء والقدر

      ١- محمّد بن يعقوب الكلينيّ رحمـه الله؛:...عبد العظيم بن عبد اللّه قال: سمعت أبا الحسـن عليه

      السلام يخطب بهذه الخطبة:... ثمّ إنّ هذه الأُمور كلّهـا بيد اللّه تجري إلى أسبابها ومقاديرها، فأمر

      اللّه يجري إلى قدره، وقدره يجري إلى أجله، وأجله يجري إلى كتابه، ولكلّ أجل كتاب يمحو اللّه

      ما يشاء ويثبت، وعنده أُمّ‏ الكتاب....

      {الكافي:  ٥/٣٧٢ ح ٦

      يأتي الحديث بتمامه في رقم  ٦٧٤}.

 

 

 

      ٢- الحلوانيّ رحمه الله؛: وقال [الهادي عليه السلام] : المقادير تريك ما لم يخطر ببالك.

      {نزهة الناظر وتنبيه الخاطر:  ١٣٨ ح ٢

      أعلام الدين:  ٣١١ س ٣ عنه البحار:  ٧٥/٣٦٩ ح  ٤ والأنوار البهيّة:  ٢٨٦ س ١٥}.

 

 

 

 

      (ط) - أفعال العباد أهي مخلوقة للّه تبارك وتعالى؟

      (١)- الشيخ المفيد رحمـه الله؛: وقد روي عن أبي الحسن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى الرضا

      - صلوات اللّه عليهم - أنّه سئل عن  أفعـال العباد، فقيل له: [هل هي] مخلوقة للّه تعالى؟

      فقـال عليـه السـلام: لو كان خالقا لها لما تبرّأ منها، وقد قال سبحانه:(أَنَّ اللَّهَ بَرِى‏ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ

      وَرَسُولُهُ‏){التوبة: ٩/٣} ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم، وإنّما تبرّأ من شركهم وقبائحهم.

      {تصحيح الاعتقاد:  ٤٣ س ٨

      عنه البحار: ٥/٢٠ س ٨ والفصول المهمّة للحرّ العاملي:  ١/٢٥٨ ح ٢٦٦

      {قطعة منه في (سورة التوبة: ٩/٣.).

 

الصفحة السابقة

الفهرست

الصفحة التالية